لا زلت اذكر ذلك الحي الشعبي الذي يقع خارج السور القديم في الطرف الشمالي من المدينة وهو الحي المعروف باسم زرايب العبيد والذي يكون مجموعة من أكواخ الصفيح التي تسكنها جماعات من القبائل المنحدرة من أصول سودانيه و افريقية كان لابد لكل من دخول ذل...ك الحي أن يجتاز القوس الحديدي العالي الذي يتوسط جدار السور الذي شيده الطليان , وكان بعد المدخل الرئيسي للمدينة ايام المقاومة الوطنية قبل ان يتأكل باباه الكبير ان بفعل الصدى المتراكم عليهما ويفقد قيمته مع مرور الزمن وتطور أحوال المدينة كان هذا الحي يتكون من عدة صفوف متراصة من الأكواخ المعدة من الزينقو تفصل بينها ممرات ضيقه لها أبواب من الصفيح تقفل بسلاسل حديدية تتوسطها أقفال كبيرة كل ليلة ولا تفتح إلا في الصباح الباكر وأمام هذه الأكواخ توجد ساحة كبيرة يقع في شمالها سوق صغير مكون من الأكشاك الخشبية التي تباع فيها المواد الغذائية والخبز والتبغ وتقع في جنوبها البناية الوحيدة المشيدة بالطوب والاسمنت والتي تتصدر بطلائها الأبيض غابة من الأكواخ التي صبغها الصدى بلونه البني الداكن كان يسكن تلك البناية احد الايطاليين الذي أفام بها حانة تحمل اسمه حانة كورادو ظلت لا تخلو يوما من الرواد ففي كل مساء يرتادها الحمالون وعمال النظافة وبعض العاطلين عن العمل الذين يقدم لهم السنيور كورادو الخمر مجاناً لاتقاء شرهم والاستعانة بهم في إخراج المشاغبين من الحانة وإبعادهم عنها , كان ذلك الحي الذي يبدو معزولاً عن بقية أحياء المدينة لا يمكن لأحد من الغرباء الخول إليه من جهة الغرب إلا إن كان مدعواً لحضور عقد زواج أو ختان ومشاهدة العروض الفنية التي تقام في ساحة تقع عند نهاية صفوف الأكواخ في جهة الشرق كلما حلت مناسبة شعبية أو دينية ففي تلك المناسبات تقوم كل قبيلة بعرض فنونها التقليدية فتصطف حلقات الرقص على إيقاعات (الدنقة) والتصفيق المصاحب لحركات الراقصين والراقصات كما تنطلق الأصوات الجماعية بالغناء , كانت الحفلات في المناسبات الدينة تقام عادة في فترة ما بعد الغداء وتنتهي عند الغروب , أما حفلات الزواج فإنها تقام داخل الأكواخ وتستمر حتة ساعات متأخرة من الليل تحييها فتيات ذات أصوات جميلة يجدن أغاني الفن المرسكاوي منا أغنية يقول مطلعها (( لو يضربوني بالجريد وسله , ولو يكتفوني بالحديد انحله)) كان يتعذر على الغرباء الاستمتاع بتلك الأصوات العذبة التي التي يتردد صداها وسط ذلك الحي الغني بالفنون المتعددة , وكان بعض المحبين لذلك الغناء يسترقون السمع من وراء الأكواخ , كانت طريقة أهل الزرايب في حفلاتهم الدينية والتقليدية , أما حياتهم اليومية فكانت تبدأ عندما تفتح الأبواب في الصباح الباكر وتدب الحياة بين السكان فيخرج الحمالون في طريقهم إلى الميناء , وتخرج بعض النسوة اللائي يتجهن إلى داخل المدينة , منهن من تجمل على رأسها (قفة) مليئة بالفول الساخن مغطاة بعناية حتى يحتفظ الفول بسخونته , ويقبل على شرائه تلاميذ المدرس , ومنهن من تحمل على رأسها (قفة) معبأة بالاعشاب اطبية ذات الأسماء المتنوعة لبيعها في سوق الجريد , حيث يتواجد باعة تلك الأعشاب الذين تعودوا الجلوس أما ضريح سيدي بالخير الذي يتوسط السوق . من هذا الحي الشعبي المعروف بالزرايب كان يخرج عجوز اشتهر بلقب (بوسعدية) لا يعرف أحد أسمه الحقيقي ولم يفكر أحد معرفة سيرته الذاتية , كان رجلاً قصير القامة نحيل الجسم تزين وجهه البشوش لحية بيضاء خفيفة وابتسامة مشرقة توحي بطيبة قلبه , وكان يرتدي ملابس مرقعة تحيط بها عقود من العلب الفارغة منها علب (البوية) و (السردين) و (الطماطم) من مخلف الألوان والتصاميم , تغطي صدره وتلتف حول ذراعيه وساقيه كما كان يحيط خسره بحزام من الجلد الأحمر تتدلى منهم عدة انواع من عظام الأغنام , منها عظم الفكين والكتف وغيرها تظل تتأرجح وتحدث خشخشة كلما أتى بحركة , وكان يغطي رأسه بطربوش من الخيش مثبتة به قطع مستديرة من زجاج المرايا تظل تلمع تحت أشعة الشمس , أما أهم ادواته فهي (القيثارة) البدائية التي تشبه (الربابة) بها أربعة أسلاك معدنية , هكذا كانت هيئة بوسعدية بخصوصيتها التي يطل بها على السوق بشارع بن عمران فيزدحم حوله الصبيان يتابعون حركاته باهتمام وإعجاب كلما حضر وأخذ يداعب القيثارة فترسل الأنغام التي يشرع في الرقص على إيقاعتها وهو يضرب الأرض بخفه المرقع ويغني ويدور حول نفسه بحركة بطيئة , فيختلط صوت القيثارة مع خشخشة العظام وقرقعة العلب الفارغة , كان يحضر أغلب الأحيان في أيام الجمع , وكان مواظباً على الحضور في أيام الأعياد والمواسم (الكبائر) التي يجد فيها إقبالاً شديداً على ما يقدمه من فن يدخل السرور إلى النفوس خاصة عندما يندمج في الغناء بعفوية وهو يهتز بجسمه النحيل , رغم أختلا كلماته مع ما تصدره بقية الأدوات وتعذر فهمها , وهكذا تعود الناس على رؤيته والأستماع بما يقدمه من الفن الشعبي الأفريقي الذي أطربهم وأجلى على نفوسهم الأكدار وأنساهم متاعب الحياة ومشاكلها , فكان أصحاب الدكاكين يعطونه النقود المدنية من فئة (النيكل) و (الصولدي) الكبير فيتلقفها ويلقيها في جوف القيثارة وهو يغني : (مولاي سلم أسيادي , مولاي نجي أولادي ) ويدور حول نفسه بسرور بين الصبيان والأطفال الذين كانوا يصاحبونه بالتصفيق الذي ينسجم مع موسيقاه وهم في أحسن حالات الطرب .
هكذا ظل بوسعدية محافظاً على ظهوره لا يغيب عن مشاركة الصبيان والأطفال في أفراحهم ولهوهم وحتى الكبار ممن كانوا يتابعون شطحاته كانوا يرون فيما يقدمه لهم نوعاً من التسلية يبعد عنهم الملل الذي يملأ حياتهم التي تتشابه أيامها وتمر ساتها مشحونة بالقلق , وأخذت الأيام تمر في رتابة والناس ينظرون إطلالة بوسعدية للاستمتاع برقصه وغنائه , وكما كانوا ينتظرون حضوره كان هو الأخر يفرح بلقائهم كلما التفوا حوله في ساحة السوق أو بأحد الشوارع , كان الشيء الوحيد الذي يزعجه هو ما تقوم به بعض الأمهات اللائي يخوفن أبنائهن بالنداء عليه ليحضر إليهم ويأكلهم إذا لم يطيعوا أومرهن , فهو لا يحب أن يظهر بصورة الوحش أمام الصغار الذين تعودوا الاستئناس به , وهذا ما حاول بعض الكبار إبعاده عن تفكير بوسعدية لأنهم لاحظوا اطمئنان الأطفال إليه كأن شيئاً خفياً يجذبهم إليه , فقد كان مقبولاً لديهم لما يتسم به من بشاشة تضيء ملامحه وتوحي بالود والمؤانسة , فهو حتى عندما يحاول أحد الأطفال المساس بأدواته كان يبتسم ويعاتبه بقوله ( رد بالك يا حمرة وذن , بوسعدية يقرص الوذن) وعند ذلك كان جميع الأطفال يضحكون ويصفقون طرباً وحبوراً فيجعلونه أشد حماساً لإطرابهم , وهكذا ظلت الأمور تسير على الوتيرة بين الناس الذين أنساهم بوسعدية هموم الحياة وتقلباتها حتى حدث ما لم يكن في الحسبان , لقد اختفى بوسعدية فجأة , لم يعد يحضر إلى السوق والشوارع كما اعتاد أن يفعل , واحتار الناس في سر اختفائه , منهم من قال لقد عجز بوسعدية عن الحضور بسبب تقدمه في السن , ومنهم من قال لابد أن يكون داهمه المرض فألومه الفراش , وقيل حتى إن بوسعدية لقي وجه ربه , ولم يجد أحد من المسئولين ما يؤكد صحة أقواله , لقد تحسر الناس على فقدانه وظل سر اختفائه غير معروف لدى الجميع , وإن ظلت ملامح شخصيته الفارقة التي ظهرت في فترة من فترات الزمن وزاحمت الأحداث تشغل حيزاً من ذاكرة المدينة العريقة .
من روائع القاص أحمد العنيزي رحمة الله عليه